ما لا يخفى على أحد، أن أهلنا في غزة يعانون الأمرين نتيجة الإغلاق والحصار الذي يمارسه الاحتلال الصهيوني، على مرأى ومسمع من العالم المتحضر، المنادي والمتبني لشعارات القيم الإنسانية، كحقوق الإنسان والحرية والعدالة والديمقراطية وغيرها من الشعارات التي أرادوا أن يفرضوها على الوطن العربي بقوة التدمير والتخريب التي يمتلكونها، كما فعلوا في العراق وأفغانستان ولبنان.
إن الصهاينة ومن ورائهم الغرب هم سبب المحنة والمعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني وبالأخص أهل غزة، المحاصرون: بكل ما للكلمة من معان متعددة، بعد أن أغلقت عليهم كل المعابر بغرض تجويعهم وقتلهم، ومن ثمة كسر شوكة المقاومة الباسلة، بعد أن فشل الاحتلال في كسرها بالآلة العسكرية والقوة التخريبية التي يمتلكها، وكذا بغرض تركيع الشعب الغزاوي أو حمله على أن يثور في وجه إخوانه الثائرين على العدو، أو ليحملوهم على أن يقبلوا بما قبل به المتخاذلون في الجهة الأخرى. ولكن ما هو غير مفهوم ومعقول لدى كل من له قلب وألقى السمع وهو شهيد، دخول بعض الأنظمة العربية المعروفة بانهزاميتها الزائدة أمام الأعداء، طرفا في هذا الحصار وتعاونها مع الصهاينة المحتلين في تجويع وقتل أطفال ومرضى أهل غزة الذين لا ذنب لهم سوى أنهم، اختاروا العّزة وقالوا: إننا أهل غزة لا بديل لنا عن وطننا فلسطين كل فلسطين.
فعوض أن تقف الأنظمة العربية في صف شعوبها وقفة تضامن مع أهل غزة، وتحاول أن تكسر هذا الحصار الظالم بكل ما لديها من وسائل تضغط بها على الإسرائيليين، راحوا ينفصلون عن شعوبهم ويتنكرون لانتمائهم العربي الذي يفرض عليهم واجب الوقوف إلى جانب إخوانهم في غزة الذين يعانون الأمرين نتيجة ممارسات الاحتلال، بل بعضهم راح يكرّس الحصار من خلال إتمام الإغلاق من أراضيه المحاذية لغزة، حتى في وجه الحالات الإنسانية.
إنها الخيانة العربية التي أهدت فلسطين إلى الصهاينة على طبق من ذهب، تعود من جديد لتهدي إليهم ما تبقى للعرب من عزة وكرامة ورفض للهيمنة والاحتلال بكل أشكاله.
بالتأكيد أن أهلنا في غزة وهم في معاناتهم التي لا تنتهي، قد تجاوزوا مرحلة الاستياء من مواقف الأنظمة العربية المنهزمة المستسلمة إلى مرحلة اليأس من أن تقوم هذه الأنظمة في يوم ما بخطوات جريئة تخدم قضيتهم العادلة، فكفوا عن انتظار هذا اليوم الذي سوف لن يأتي أبدا، واستجمعوا كل ما لديهم من طاقة صبر وجلد، ليستطيعوا أن يتحملوا هذه المعاناة وهذا الظلم الواقع عليهم من قبل الاحتلال ومن يقف وراءه. وبالفعل فإننا لم نر طيلة هذه الأيام الطويلة التي رمت بكل ثقلها على الغزاويين، إلا كل صبر وتحمل لوطأة الحصار الذي لا يمكن أن تتحمله الجبال، لا بل وراحوا يزيدون من مؤازرتهم للمقاومة الباسلة ولرجالها الأشاوس، ليقولوا للعدو بأننا سوف لن نكون لكم حصان طروادة تركبوننا لتقضوا على المقاومة، بل سنكون غصة في حلوقكم ولن تروا منا إلا كل بأس وسنكون السد المنيع أمام كل عمل يستهدف القضاء على عزتنا وكرامتنا المتمثلة في مقاومتنا لاحتلاكم لأرضنا الطاهرة، ولو أدى ذلك إلى قبرنا جميعا في أرض غزة.
هذا هو جواب الغزاويين للاحتلال بعد كل هذه الأيام من الحصار والإغلاق، وهو ما أدى الى أن يفقد الصهاينة ما بقي لهم من أعصاب ويتصرفون كالمجنون الطائش، وكعادتهم حينما يتغلب عليهم جبنهم يقومون بتوجيه آلاتهم التدميرية من بعيد ومن وراء الجدران نحو أبناء غزة العزل، فيضربون دون تمييز فيقتلون من يقتلون ويجرحون من يجرحون، دون أن يحرك هذا العالم الجبان إلى أقصى الحدود ساكنا، ليبقى أهل غزة يتخبطون في دمائهم ودموعهم وحدهم، رافعين أكف الضراعة إلى الله العلي القدير لينصفهم وينصرهم على عدوهم ويخذل من خذلهم من الحكام العرب، الذين تخلوا على نصرة أرض الله المقدسة التي تحوي أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسول الله صلى الله عيه وسلم.
إن الشعوب العربية وكل الأحرار في العالم الذين يرفضون الاحتلال والهيمنة ينظرون بإكبار وإجلال إلى الشعب الفلسطيني وبالأخص الشعب الغزاوي البطل الشجاع، الذي استطاع أن يتحدى الحصار الصهيوني والدولي الظالم، رغم المعاناة والآلام والجراح التي يخلفها يوميا، ورغم رائحة الموت وجثث الشهداء وأشلائهم المتناثرة هنا وهناك، ورغم دموع الأطفال والأرامل والثكالى التي تدمي القلوب الميتة فما بالك بالحية.
بدون مبالغة أو مزايدة أقول: أن أهل غزة أثبتوا هذه الأيام للعالم المعادي والصديق أنهم شعب أسطوري، ولد من رحم التاريخ وهو يحمل مورثات أسلافنا الأبطال الذين فتحوا العالم في يوم ما، وأسلافنا الذين أخرجوا الصليبيين من فلسطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، هذا الاسم الخالد الذي لا يزال يذكر كلما ذكرت فلسطين المحتلة. ومن يدري فلعل الله سيخرج من رحم إحدى خنساوات فلسطين، رجل كصلاح الدين يخرج الصهاينة المغتصبين ويهزمهم شر هزيمة، ويعيد للأمة عزتها وكرامتها التي أهدرتها هذه الثلة المتسلطة على رقاب الشعوب العربية.